نشأة الدراما

كيف بدأت الدراما ؟

" ترجع معظم الأراء إلي أن نشأة الدراما ترجع إلي عبادة الآله ديونيسيوس وذلك لإقامة المسرحيات في أعياده كطقس من طقوس عبادته . منذ بدأ شعراء التراجيديا (المأساة) اليونانية يعدون مسرحيات الأناشيد والمرثيات الباخوسية في أعياد ديونيسيوس.. وينبغي هنا الإشارة إلي أنه لم تكن العروض المسرحية الإغريقية القديمة تقدم بشكل دائم كما يحدثاليوم بل كانت تقدم فى إطار الإحتفالات الدينية المحددة التى تقع على فترات متباعدة . فقد كان العرض المسرحى جزء من إحتفال رسمى مقدس .

لذا نشأ المسرح كباقى الفنون الأخرى فى أحضان الدين ويظهر ذلك جلياً فى إرتباطالمسرح بالمعبد فقد كان يُقام بجواره و نجد فى وسط الأوركسترا مذبحاً لتقديم الأضاحى للآله ديونيسيوس قبل و بعد الإحتفالية الدينية كما ظهر فى مسارح أثينا ".(1)

" كانت العروض المسرحية تُقدم مرتين فى العام فى الأيام المُخصصة لأعياد الآله ديونيسيوس . وكان يشرف عليها الآله بنفسه كما كان يعتقد الإغريق وذلك من خلال قيام الكاهن بنقل تمثال الآله إلى المسرح فى بداية الإحتفال ثم يوضع على مقعد وسط مقاعد الشرف προεδριαفى الصف الأول. وما يؤكد ذلك أن المسرح كان داراً للعبادة أكثر من كونه مكاناً مُخصصاً لتقديم العروض المسرحية. فقد اكتسب المسرح قداسة تماثل قداسة المعبد. وقد احتل ديونيسيوس مكاناً مرموقاً, ومكنت تلكالاحتفالات الديونيسيوسية للإنسان أن يزيل آلامه و شجونه وأن يسعد بالمديح والبهجة فى أعياده, وهذا يُعزى إلى الرقص و الغناء المُعتاد فى إحتفالات الديونيسيا الكبرى التى كانت تتيح الفرصة لاجتماعات شعبية مرحة بوهيمية لجماعات السُكارى المرحة الماجنة التى يُطلقعليها اسم "كومى "Komoiوكان يفتتح عيد الديونيسيا بموكب يُرفع فيه عضوالإخصاب "Phallos" الذكرىرمز الخصوبة كعلم قومى ". (2)

" سريعاً سيطرت عبادة الآله ديونيسيوسعلى مشاعر ووجدان الشعب الإغريقى، فقدكانت هذه العبادة تمنح الإنسان إحساس بالحرية فى وقت سيادة حكم الفرد الاستبدادى على المدينة اليونانية. فالعبادة الجديدة قد وعدت الإنسان بالخلاص من كل الضغوط النفسية المحيطة به. وبدراسة الوضع الإجتماعى للمرأة فى حياة المدينة الإغريقية، تجعلنا ندرك فى الحال الأسباب التى دفعتها إلى هذه العبادة. فقد كانت النساء اليونانيات محرومة و مقطوعة الصلة بالحياة الإجتماعية والسياسية، كما لم يكن لها أى دور إجتماعى حتى فى أشد العصور إزدهاراً، فى القرن الخامس قبل الميلاد وهو العصر الذهبى لأثينا. لذا شعرت النساء بإنجذاب خاص لهذا الآله و عبادته التى تمنح الإنسان الخلاص و الحرية ". (3)

" فقد كانت جماعة الميناد mainadesرفاق الآله ديونيسيوس تشيع جواً من الصخب والمرح والغناء النشوان والرقص والإنغماس المفرط فى اللذة دفعت النساء للخروج إلى الطبيعة والمشاركة فى هذه الطقوس الهمجية البدائية التى سادها الهوس الشديد إلى حد الإنفعال والجنون . فقد كان كل من يؤمن به ينسى نفسه ويخرج من ذاته – وهذا ما تعنيه بدقة كاملة كلمة "التجلى "Ekstasis باليونانية (Ecstasis) بالإنجليزية وهناك العديد من القصصالأسطورية التى تسرد لنا عن محاولات فاشلة لبعض الملوك لخنق هذه العبادة أو التخلُّص من العناصر الهمجية بها. ولكنها صمدت فى وجه كل المحاولات، وذلك لأنها منحت الإنسان الحرية المُطلقة. ولكن كان على العبادة الجديدة أن تغيرمن بعض مظاهرها البدائية, كى تندرج داخل إطار برنامج العبادات و المهرجانات الدينية فى أثينا فى القرن السادس ق.م. ونتيجة لذلك, تم تقديم الأضاحى كطقس من طقوس المهرجانات". (4)

نشأة "المأساة" التراجيديا
" و مهما تعددت الروايات حول نشأةالمأساة الأثينية, فمن المسلم به أن المأساة قد نبتت من الرقصات والأغانى الديثرامبية, ثم أخذت تتطور تدريجياً حتى صارت فناً قائماً بذاته. ومن المؤكد أن الديثرامبوس قد تطور تطوراً سريعاً منذ أن أرتبط بأعياد هذا الآله التى تقام فى أثينا . وهكذا صدق أرسطو عندما قال:" بأن الدوريينكانوا أصحاب الفضل فى خلق المأساة وصدق أيضاً الذين قالوا: "بأن الأثينين كانوا أصحاب الفضل فى جعلها فناً أدبياً رائعاً" . فكما نعلم أنالمأساة اليونانية منذ نشأتها استمدت موضوعاتها من الأساطير والخرافات التي ورثها اليونان عن أسلافهم، ولكن شعراء المأساة لم يكتفوا بأسطورة ديونيسيوس وحدها بل تناولوا في مسرحياتهم كثيراً من الأساطير التي تدور حول الآلهه وأنصاف الآلهه وأبطال الخوارق.

ويجب ألا نعتقد أن شعراء المأساة تناولوا هذه الأساطير كما هي، بل أدخلوا عليها تغييرات وإضافات، ولأن الأسطورة اليونانية كانت تتضمن عدداً من القصص الغامضة المتشابكة، لذا كان على الشاعر أن ينسقها ويعدها في صورة قصة واحدة تتناول أحداثاً متتالية تنتهي بعقدة مثيرة.‏لذا كان الشعراء يتخذوا من هذه الأساطير أَطراً لمعالجة المشاكل الاجتماعية والخلقية المختلفة المواكبة لعصرهم، كما كانت تعالج المشاكل والأوضاع السياسية الداخليةوالخارجية، ولا يعني ذلك أن شعراء المأساة لم يحاولوا الخروج عن نطاق الأساطير فبعضهم مثل"فرونيخوس"، قد تناول في مسرحياته موضوعات ترتبط بالوقائع التاريخية والحوادث المعاصرة.

و لقد وضع‏ "أرسطو" تعريف للمأساة فقال أ نها:

" تقليد لحدث جدي كامل لـه جلاله، في لغة منمقة بكل أنواع المحسنات الفنية، وهذه الأنواع توجد في أجزاء متفرقة من المأساة، وذلكالحدث يأتي بأسلوب درامي لا قصصي ليطهر النفس عن طريق الخوف والشفقة ـ تطهيراً كاملاً " ".(5)

" وما يجب أن يشار إليه هنا أن المأساةاليونانية كسائر المآسي القديمة تُنظم شعراً في أوزان مختلفة، وكل وزن منها يستعمل لتصوير موقف معين، لذلك نجد أن أجزاء المأساة كانت تعتمد اعتماداً كلياً على الأوزان، وأن أشعار كل جزء من هذه الأجزاء كانت تنتظم في وزن يناسب الوظيفة التي يؤديها هذا الجزء لتطور مراحل الحدث (الأجزاء كما هي موضحة في كتابالمأساة اليونانية سوف يتم ذكرها باختصار).. الأجزاء هي:‏
1ـ المقدمة: (المنظر الأول في المأساة) تنظم على شكل حوار ديالوج أو مونولوج‏..
2 ـ المدخل: دخول الجوقة و الموسيقي (الأوركسترا)‏.
3 ـ فاصل من الإنشاد تؤديه الجوقة (الابسيدون):ويعرف "أرسطو" في كتابه "فن الشعر" مصطلحالابسيدون : "الجزء من المأساة الذي يقع بين نشيدين كاملين تنشدهما الجوقة ".
4ـ الخاتمة: ويعرفها "أرسطو" أيضاً في كتابه المذكور بأنها ذلك الجزء الذي لا يتبعه نشيد (أغنية جماعية تنشدها الجوقة) وبمعنى أسهل: الجزء الذي يأتى بعد الابسيدون. ويتميز هذا الجزء بظاهرتين (الأولى: خطبة الرسول، والثانية: ظهور الآلهه).. ولعل هذه الأجزاء تبدو أكثر وضوحاً كما في مسرحيات "المستجيرات" لأسخيلوس ،وهي من أقدم المآسي التي تُظهر خصائصالمأساة اليونانية عند نشأتها، وهي مأساةبسيطة تعالج حدث واحد، وتعتبر هذه الدراما الجزء الأول من مجموعة ثلاثية مفقودة، ففيها تلعب الجوقة المكونة من خمسين شقيقة هن(بنات دناؤوس) ".(6)‏

" كما أشار "أرسطو" إلي الشعر الغنائيبوصفه مرحلة أولي ممهدة لنشأة المأساة والملهاةالذين هما أعلي منه شأنا ولقد إنقسم الشعر وفقا لطباع الشعراء، فالشعراء ذو النفوس النبيلة حاكوا الأفعال النبيلة وأعمال الفضلاء، وذو النفوس الخسيسة حاكوا أفعال الأدباء فأنشأو الأهاجي علي حين أنشأ أخرون التراتيل الدينية والمدائح ثم إرتقت الأهاجي فصارت ذات طابع درامي بعد أن كانت حكاية المهازل والمخازي الفردية. كما كانتالملحمة أساس المأساة وهذه الفروع الأدبية الأخيرة (المأساة والملهاة) أجل وأعلي مقاما من الاول.

الملحمة وعلاقتها بنشأة "المأساة" التراجيديا
ولقد كانت الملحمة هي النواة الأولي للمأساة إلا أنه توجد بعض الاختلافات بين كلا النوعين فالملحمة:" قصة شعرية موضوعها وقائع الأبطال الوطنين العجيبة التي تبوئهم منزلة الخلود بين وطنهم ويلعب الخيال فيها دورا كبيرا إذ تَحكي علي شكل معجزات ما قام به هؤلاء الأبطال وما به سموا عن الناس" وعنصر القصة واضح فيالملحمة فالحوادث تتوالي متمشية مع التطورات النفسية التي يستلزمها تسلسل الاحداث ولكلملحمة أصل تاريخي صدرت عنه بعد أن حرفت تحريفا يتفق وجو الخيال في الملحمة، وهي محكية لشعب يخلط بين الحقيقة والتاريخ مما يسيغ أن تحدث خوارق العادات ، والأبطال فيها يمثلون جنسهم وعصرهم ومدينتهم.

والملحمة أيضا محاكاة عن طريق القصص شعرا فهي تروي الأحداث ولا تقدمها أمام عيون النظارة أو القارئين كما يحدث في المأساة وهذا جوهر ما بينها وبين المأساة من فرق، ويجب أن تتوافر لها الوحدة التي توجد في المأساة فتحاكي فعلا واحدا تاماً وتكون لها بذلك الوحدة العضوية. وأجزاء الملحمة هي أجزاء المأساةفيما عدا النشيد والمنظر المسرحي ففيها الحكاية ويجب أن تكون بسيطة ويصح أن يكون الفعل فيها مركباً وهو ما تحدث فيه الفواجع " .(7)

نشأة " الملهاة" الكوميديا
" يختلف مصدر نشأة الكوميديا (الملهاة)عن نشأة التراجيديا (المأساة) وبالتالي تختلف وظيفتها، فهي لم تنشأ في أحضان الدين، أوفي تطور الطقوس الدينية، ولهذا السبب لم تحظ ولفترة طويلة باحترام كامل إلا بعد أن أسسلها "أرستوفانيس" وثبت وجودها الجاد ولا سيما في عهد "كليون" تاجر الجلود الذي تولى الحكم في أثينا بعد "بربكليس العظيم"، ووصل إلى السلطة نتيجة الرشوة وشراء الضمائر، ومن ثم سخر حكمه لخدمة مصالحه الشخصية، وأشعلالحروب لزيادة ثروته منها، فهو تاجر حروب أيضاً. وترجع نشأة الملهاة إلى الطقوس الشعبية"كوموس أتيكا" وهذه الطقوس كان يقوم بها مجموعة من المهرجين (الضحَّاكين) العابثين حيث ينتظمون في مواكب يرددون أغاني وأشعارا لا يُعرف إسم مؤلفها، والتي تمجد الآلهديونيسيوس ومن كلمة "كوموس" اليونانية أخذت الملهاة اسمها في اللغاتالأوربية وتحورت إلى الكوميديا. والكوميديا مؤلفة من كلمتين "كوموس" أي الجوق العابث الهازل"وأوديا" التى تعنى أغنية ومن تلك الأغاني تطورت الملهاة ".(8)

تعليقات